عندما نذكر الصدّيقة الطاهرة
عندما نذكر الزهراء (ع) سواء في ذكرى ولادتها وهي تنفتح على الحياة، أو في ذكرى وفاتها وهي تنفتح على رحاب الله لتلتقي في أقرب موعد بأبيها رسول الله، عندما نتذكرها وهي لم تتخطَّ شبابها، بل ربما فارقت الحياة وهي في وسط الشباب، عندما نتذكرها وهي الإنسانة التي كانت رسالة متحركة في عقلها، وفي روحها، وفي فكرها، وفي علمها وزهدها، وعبادتها وصلابتها، وقوّتها في الحق، عندما نتذكّرها، نتذكّر هذه الصدّيقة الطاهرة التي كانت الطهر كلّه، وكانت العصمة كلّها، وكانت الحق كلّه.
هذه الإنسانة التي عاشت المعاناة منذ طفولتها الأُولى كأقسى ما تكون المعاناة، وانفتحت على المعاناة حتّى وهي زوجة لعلي (ع) في كلّ متاعبها في بيتها وفي مجتمعها، وعاشت المعاناة في فقدها لأبيها التي كانت منه العقل من العقل، والروح من الروح، والحياة المنفتحة على حياة الرسالة، بحيث تمتزج الحياتان معاً في خطِّ الإنسانيّة في روح الرسالة، وعاشت المعاناة كذلك في بيتها وفي نفسها، وفي القضية الكبرى التي دافعت عنها كأقوى ما يكون الدفاع.
لم تعش لنفسها
إنّ خلاصة حياة هذه الإنسانة فاطمة (ع)، هي في أنّها لم تعش لنفسها لحظة واحدة، وإنّما عاشت لأبيها رسول الله، ولزوجها وليّ الله، ولولديها اللّذين هما إمامان إن قاما وإن قعدا، ولم تعش لهم قرابةً فقط، ولكنّها عاشت لهم رسالة، ولذلك كانت الرسالة تجري معها وتسير معها، وكانت تطلّ على الناس كلهم لتفكّر بآلام الناس قبل أن تفكّر بآلام نفسها. وهكذا كانت ابنة رسول الله في رسالته، كما هي ابنة رسول الله في نسبه. فتعالوا لنتحدث من خلال حديث رسول الله (ص) في شأنها مما رواه الفريقان من المسلمين، ولعلّ أفضل من نظم في الزهراء (ع) هو أمير الشعراء «أحمد شوقي»، حيث قال:
ما تمنّى غيرَها نسلاً ومن يلدِ الزهراءَ يزهدْ في سواها
لماذا الاهتمام بالزهراء (ع)
وهذا هو الذي يجعلنا _ أيّها الأحبة _ نهتم بذكرى الزهراء (ع)، لأننا عندما نذكرها نذكر قضية الرسالة، وكيف كانت (ع) فيها، ونذكر خط الحركة الإسلامية في القضايا المتحركة في داخل الإسلام التي كانت الزهراء (ع) عنصراً حيويّاً فيها، إنّنا نتذكّرها في ذلك كلّه، لأنّ هناك أشخاصاً في التاريخ ينتهون عندما يموتون لأن حياتهم تختصر في داخل ذاتهم، وهناك أناس يبقون في الحياة حياةً تنفتح على رسالتهم ليبقوا ما بقيت رسالتهم. وفاطمة الزهراء (ع) من هؤلاء، ذلك أنك لا تستطيع أن تذكر رسول الله إلاّ وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر عليّاً (ع) إلاّ وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر طفولة الحسن والحسين وزينب عليهم السلام إلاّ والزهراء هي سرّ الطهر في طفولتهم. لذلك ندعو إلى أن تبقى الزهراء في عقولنا وفي قلوبنا رسالةً وفكرةً لا مجرد دمعة، لأننا لا نملك إلاّ أن ننفتح عليها بدموعنا، ولكن الأكبر من ذلك أن ننفتح عليها برسالتها، لأنها عاشت كلّ دموعها للرسالة ولم تعشها لنفسها طرفة عين، وهذا هو سرّ أهل البيت (عليهم السلام) في أنهم عاشوا للإسلام كلّه، ومن هنا، فإنّ علينا أن نوظف كلّ ذكراهم من أجل الإسلام كلّه.
الزهراء (ع) في كلمات الرسول (ص)
عندما نريد أن نستنطق الزهراء (ع) في كلمات رسول الله (ص)، فنحن نلتقي أولاً بـ «البخاري» في سنده عن رسول الله (ص): «فاطمة بضعةٌ مِنّي من أغضَبها فقد أغضَبني»، ونلتقي بمسلم صاحب الصحيح، «إنّما ابنتي بضعةٌ منّي يؤذيني ما آذاها»، وفي رواية أُخرى لمسلم: «إنّما ابنتي بضعةٌ مني يُريبني ما رابَها، ويؤذيني ما آذاها».
عندما نريد أن نستنطق هذه الأحاديث، ورسول الله (ص) كما عرّفنا الله إياه {وما يَنطقُ عنِ الهوى* إن هو إلاّ وحيٌ يوحى} (النجم/3-4).
وحيٌ في القرآن يُنـزله الله آيات، ووحيٌ في عقله يركّزه الله بالحقيقة في المفاهيم، ووحيٌ في سنّته عندما يحرّك سنّته لتكمل خط الكتاب، وهو الصادق الذي لا يتقوّل على الله {ولو تقوّل علينا بعضَ الأقاويل* لأخذْنا منه باليمن* ثم لقطعنا عنهُ الوتين} (الحاقة/44 - 46).
لذلك عندما يتكلّم فإنّه لا يتكلّم عاطفةً ليعطي القيمة من خلال العاطفة، ولكنه يتكلّم رسالةً ليعطي القيمة من خلال الرسالة، وهو بشرٌ يحضن ابنته كما يحضن أي بشر ابنته، ولكن عندما يعطي القيمة من خلال الرسالة، فإنّه بشر يوحى إليه.
ولذلك عندما يقول: «بضعةٌ منّي»، فما معنى أن يكون إنسان ما قطعةً من رسول الله (ص)؟ معناه أنه يرتبط برسول الله ارتباطاً عضويّاً كما لو كان جزءاً حيّاً في جسده، وعندما يكون شخص قطعةً من رسول الله، فإنّ عقله يختزن بعضاً من عقل رسول الله، وإنّ روحه تختزن بعضاً من روح الله (ص)، وإنّ حياته تختزن الطهر والنقاء والصفاء والروحانيّة والصدق والأمانة من كل حياة رسول الله (ص)، وعندما يقول رسول الله (ص): «من أغضبها فقد أغضبني، ومن آذاها فقد آذاني»، فإنّ أصحاب الرسالات لا ينفعلون عاطفياً عندما يُغضِب الناس أولادهم بالحق، فإذا كنت أباً صالحاً وأغضب الناس ولدك لأنه أساء ولأنه أذنب، فهل يجوز لك بأن تتحدث عن أن من يُغضب ولدك يُغضبك؟ لا يمكن ذلك.
إذاً فمعنى ذلك أن فاطمة (ع) هي المرأة التي لا يمكن أن تسيء إلى أحد، ولا يمكن أن تسيء في قول أو في عمل، حتى يكون للناس الحق في إيذائها، وحتى يكون للناس الحق في إغضابها، بل هي الإنسانة التي لا يملك أحد أن يُغضبها من خلال ما تثيره من غضب على أساس الانحراف _ تقدَّست عن ذلك _، ومعنى ذلك أنّ فاطمة (ع) هي الإنسانة التي لا تسيء، والإنسانة التي لا تذنب ولا تنحرف، ولذلك فمن أغضبها فإنه يُغِضب الحقّ ويُغضِب الخطّ المستقيم.
هكذا نفهم كلام رسول الله (ص): «من أغضبها فقد أغضبني، ومن آذاها فقد آذاني»، وهي لا تتأذّى إلاّ عندما يُعصى الله، ولا تتأذى إلاّ عندما ينحرف الناس عن طريق الله، ولذلك يتأذّى رسول الله بأذاها، وإلاّ كيف يمكن أن يتأذّى رسول الله بأذاها إذا كان أذاها ليس مبرّراً من جانب الحق أو من جانب الرسالة؟!
أشبه الناس برسول الله (ص)
ثم نتابع في كتاب «الاستيعاب»، وهذه ليست مصادر شيعيّة، لنبيّن من خلال ذلك أنها تمثل مصادر حيادية، لأن بعض الناس قد يتهم الشيعة بأنهم يتحدّثون بعاطفتهم، ففي «الاستيعاب» لابن عبد البر بأسانيده كما يقول، عن عائشة أمِّ المؤمنين أنها قالت: «ما رأيتُ أحداً كان أشبهَ كلاماً وسَمْتاً وهدياً ودلاً برسول الله من فاطمة، وكانت إذا دخَلتْ عليه قامَ إليها فأخذَ بيدِها فقبّلها وأجلَسها في مجلِسه، وكانت إذا دخَل عليها قامتْ إليه فأخذَت بيدِه فقبّلتها وأجلَسته في مجلسها».
عندما ندرس هذا النص، سواء مما ورد عن عائشة في الاستيعاب أو في سنن أبي داود فماذا نفهم؟ إنه يوحي بعمق العلاقة الروحية بين رسول الله (ص) وبين فاطمة (ع)، لأنّ رسول الله لم يفعل ذلك مع غيرها، ولم تفعل ذلك مع غيره، ولكنه فعله معها وفعلته معه، لماذا؟ لأنّ العلاقة بين فاطمة الزهراء (ع) وبين رسول الله بدأت منذ طفولتها الأُولى، ربّما لم تحدّثنا السيرة عن طفولتها مع رسول الله في حياة أُمها، ولكن السيرة النبوية الشريفة حدّثتنا عن طفولتها بعد وفاة أُمها، وكان رسول الله (ص) وحيداً في بيته، مات عمّه «أبو طالب» الّذي كان يرعاه ويحميه من عنف قريش، وماتت زوجته «خديجة» أمّ المؤمنين الّتي تعيش معه وله بكلِّ وجودها، وأصبح يعيش الوحدة تماماً. كما عاش الوحدة عندما افتقد أُمّه وهو رضيع، والنبي (ص) وهو الممتلئ بمحبة الله، كان بشراً يحتاج إلى الحنان والعاطفة والمحبة كما يحتاجها البشر، وليس ذلك نقصاً في ذاته، وليس ضعفاً في ثقته بنفسه وامتلائه بربّه، ولكن _ أيّها الناس _ إنّ النبي يجوع كما نجوع ويعطش كما نعطش، ونحن نجوع إلى الحنان عند حاجتنا إلى الحنان، ونحتاج إلى أن نشبع منه، كما نجوع إلى الغذاء ونحتاج إلى أن نشبع منه، وكان النبي (ص) يريد اللمسة الحلوة والاحتضان الرقيق، وتفرغت الزهراء (ع) بكل ما في قلبها من حنان وعاطفة، وطهر ونقاء وصفاء، واحتضنت حياته، وكلِّ متاعبه في رسالته، حتّى اكتشف النبي (ص) أن أُمه قد بُعِثَت من جديد، وانطلقت كلمته الخالدة «إنّها أُمّ أبيها».
ربّما حاول البعض أن يصوّر حديثنا عن هذه الأمومة الّتي انفتحت من خلالها فاطمة، من قلبها وروحها على أبيها، أننا نتحدّث عن ضعف في النبي، أو أنّها تسيء إلى كماله وعصمته، ولكن أيّها الناس، هل تنافي العصمة أن يجوع النبي ويربط حجر المجاعة على بطنه، أن يظمأ النبي ويشرب الماء ليستقي به، فكذلك جوع الحنان وشبع الحنان وظمأ العاطفة وارتواء العاطفة، وقد لا يعي الناس هذه المعاني الّتي أكدها الله سبحانه وتعالى عندما تحدّث عن حزن النبي، وتحدّث عن ذهاب نفسه حسرات من أجل قومه، وتحدّث عن كثير ممّا يعانيه من مشاعره الّتي تبقى مشاعر الإنسان. وهذا ما يفسّر عمق هذه العلاقة الّتي امتدّت حتّى وفاته (ص)، فلقد كان هناك عشق روحي متبادل، وربما نستطيع أنْ نؤكد أنّ هناك وحدةً تمثل هذا الاندماج الروحي بين الزهراء (ع) وبين رسول الله (ص).
ثم نتابع في الجو نفسه وفي عدة روايات، «إنّ فاطمة أقبلَتْ ما تخطئ مشيتُها مشيةَ رسول الله (ص)»، تأثّرت به حتّى في طريقة مشيه، لأنّه كان أستاذها وكان المربي لها وكان المعلم لها، وكان الّذي يعطيها في كل يوم خُلُقاً من أخلاقه وروحاً من روحه، وعقلاً من عقله، كانت معه في مكة في الليل والنهار يناجيها وتناجيه، ومن هنا كان علم فاطمة من علم رسول الله، كما كان علم زوجها من علم رسول الله، لم يتحدث التاريخ عن أُستاذ لفاطمة (ص) غير رسول الله (ص)، كما لم يحدّثنا التاريخ عن أُستاذ لعلي (ع) غير رسول الله (ص).
عندما نذكر الزهراء (ع) سواء في ذكرى ولادتها وهي تنفتح على الحياة، أو في ذكرى وفاتها وهي تنفتح على رحاب الله لتلتقي في أقرب موعد بأبيها رسول الله، عندما نتذكرها وهي لم تتخطَّ شبابها، بل ربما فارقت الحياة وهي في وسط الشباب، عندما نتذكرها وهي الإنسانة التي كانت رسالة متحركة في عقلها، وفي روحها، وفي فكرها، وفي علمها وزهدها، وعبادتها وصلابتها، وقوّتها في الحق، عندما نتذكّرها، نتذكّر هذه الصدّيقة الطاهرة التي كانت الطهر كلّه، وكانت العصمة كلّها، وكانت الحق كلّه.
هذه الإنسانة التي عاشت المعاناة منذ طفولتها الأُولى كأقسى ما تكون المعاناة، وانفتحت على المعاناة حتّى وهي زوجة لعلي (ع) في كلّ متاعبها في بيتها وفي مجتمعها، وعاشت المعاناة في فقدها لأبيها التي كانت منه العقل من العقل، والروح من الروح، والحياة المنفتحة على حياة الرسالة، بحيث تمتزج الحياتان معاً في خطِّ الإنسانيّة في روح الرسالة، وعاشت المعاناة كذلك في بيتها وفي نفسها، وفي القضية الكبرى التي دافعت عنها كأقوى ما يكون الدفاع.
لم تعش لنفسها
إنّ خلاصة حياة هذه الإنسانة فاطمة (ع)، هي في أنّها لم تعش لنفسها لحظة واحدة، وإنّما عاشت لأبيها رسول الله، ولزوجها وليّ الله، ولولديها اللّذين هما إمامان إن قاما وإن قعدا، ولم تعش لهم قرابةً فقط، ولكنّها عاشت لهم رسالة، ولذلك كانت الرسالة تجري معها وتسير معها، وكانت تطلّ على الناس كلهم لتفكّر بآلام الناس قبل أن تفكّر بآلام نفسها. وهكذا كانت ابنة رسول الله في رسالته، كما هي ابنة رسول الله في نسبه. فتعالوا لنتحدث من خلال حديث رسول الله (ص) في شأنها مما رواه الفريقان من المسلمين، ولعلّ أفضل من نظم في الزهراء (ع) هو أمير الشعراء «أحمد شوقي»، حيث قال:
ما تمنّى غيرَها نسلاً ومن يلدِ الزهراءَ يزهدْ في سواها
لماذا الاهتمام بالزهراء (ع)
وهذا هو الذي يجعلنا _ أيّها الأحبة _ نهتم بذكرى الزهراء (ع)، لأننا عندما نذكرها نذكر قضية الرسالة، وكيف كانت (ع) فيها، ونذكر خط الحركة الإسلامية في القضايا المتحركة في داخل الإسلام التي كانت الزهراء (ع) عنصراً حيويّاً فيها، إنّنا نتذكّرها في ذلك كلّه، لأنّ هناك أشخاصاً في التاريخ ينتهون عندما يموتون لأن حياتهم تختصر في داخل ذاتهم، وهناك أناس يبقون في الحياة حياةً تنفتح على رسالتهم ليبقوا ما بقيت رسالتهم. وفاطمة الزهراء (ع) من هؤلاء، ذلك أنك لا تستطيع أن تذكر رسول الله إلاّ وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر عليّاً (ع) إلاّ وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر طفولة الحسن والحسين وزينب عليهم السلام إلاّ والزهراء هي سرّ الطهر في طفولتهم. لذلك ندعو إلى أن تبقى الزهراء في عقولنا وفي قلوبنا رسالةً وفكرةً لا مجرد دمعة، لأننا لا نملك إلاّ أن ننفتح عليها بدموعنا، ولكن الأكبر من ذلك أن ننفتح عليها برسالتها، لأنها عاشت كلّ دموعها للرسالة ولم تعشها لنفسها طرفة عين، وهذا هو سرّ أهل البيت (عليهم السلام) في أنهم عاشوا للإسلام كلّه، ومن هنا، فإنّ علينا أن نوظف كلّ ذكراهم من أجل الإسلام كلّه.
الزهراء (ع) في كلمات الرسول (ص)
عندما نريد أن نستنطق الزهراء (ع) في كلمات رسول الله (ص)، فنحن نلتقي أولاً بـ «البخاري» في سنده عن رسول الله (ص): «فاطمة بضعةٌ مِنّي من أغضَبها فقد أغضَبني»، ونلتقي بمسلم صاحب الصحيح، «إنّما ابنتي بضعةٌ منّي يؤذيني ما آذاها»، وفي رواية أُخرى لمسلم: «إنّما ابنتي بضعةٌ مني يُريبني ما رابَها، ويؤذيني ما آذاها».
عندما نريد أن نستنطق هذه الأحاديث، ورسول الله (ص) كما عرّفنا الله إياه {وما يَنطقُ عنِ الهوى* إن هو إلاّ وحيٌ يوحى} (النجم/3-4).
وحيٌ في القرآن يُنـزله الله آيات، ووحيٌ في عقله يركّزه الله بالحقيقة في المفاهيم، ووحيٌ في سنّته عندما يحرّك سنّته لتكمل خط الكتاب، وهو الصادق الذي لا يتقوّل على الله {ولو تقوّل علينا بعضَ الأقاويل* لأخذْنا منه باليمن* ثم لقطعنا عنهُ الوتين} (الحاقة/44 - 46).
لذلك عندما يتكلّم فإنّه لا يتكلّم عاطفةً ليعطي القيمة من خلال العاطفة، ولكنه يتكلّم رسالةً ليعطي القيمة من خلال الرسالة، وهو بشرٌ يحضن ابنته كما يحضن أي بشر ابنته، ولكن عندما يعطي القيمة من خلال الرسالة، فإنّه بشر يوحى إليه.
ولذلك عندما يقول: «بضعةٌ منّي»، فما معنى أن يكون إنسان ما قطعةً من رسول الله (ص)؟ معناه أنه يرتبط برسول الله ارتباطاً عضويّاً كما لو كان جزءاً حيّاً في جسده، وعندما يكون شخص قطعةً من رسول الله، فإنّ عقله يختزن بعضاً من عقل رسول الله، وإنّ روحه تختزن بعضاً من روح الله (ص)، وإنّ حياته تختزن الطهر والنقاء والصفاء والروحانيّة والصدق والأمانة من كل حياة رسول الله (ص)، وعندما يقول رسول الله (ص): «من أغضبها فقد أغضبني، ومن آذاها فقد آذاني»، فإنّ أصحاب الرسالات لا ينفعلون عاطفياً عندما يُغضِب الناس أولادهم بالحق، فإذا كنت أباً صالحاً وأغضب الناس ولدك لأنه أساء ولأنه أذنب، فهل يجوز لك بأن تتحدث عن أن من يُغضب ولدك يُغضبك؟ لا يمكن ذلك.
إذاً فمعنى ذلك أن فاطمة (ع) هي المرأة التي لا يمكن أن تسيء إلى أحد، ولا يمكن أن تسيء في قول أو في عمل، حتى يكون للناس الحق في إيذائها، وحتى يكون للناس الحق في إغضابها، بل هي الإنسانة التي لا يملك أحد أن يُغضبها من خلال ما تثيره من غضب على أساس الانحراف _ تقدَّست عن ذلك _، ومعنى ذلك أنّ فاطمة (ع) هي الإنسانة التي لا تسيء، والإنسانة التي لا تذنب ولا تنحرف، ولذلك فمن أغضبها فإنه يُغِضب الحقّ ويُغضِب الخطّ المستقيم.
هكذا نفهم كلام رسول الله (ص): «من أغضبها فقد أغضبني، ومن آذاها فقد آذاني»، وهي لا تتأذّى إلاّ عندما يُعصى الله، ولا تتأذى إلاّ عندما ينحرف الناس عن طريق الله، ولذلك يتأذّى رسول الله بأذاها، وإلاّ كيف يمكن أن يتأذّى رسول الله بأذاها إذا كان أذاها ليس مبرّراً من جانب الحق أو من جانب الرسالة؟!
أشبه الناس برسول الله (ص)
ثم نتابع في كتاب «الاستيعاب»، وهذه ليست مصادر شيعيّة، لنبيّن من خلال ذلك أنها تمثل مصادر حيادية، لأن بعض الناس قد يتهم الشيعة بأنهم يتحدّثون بعاطفتهم، ففي «الاستيعاب» لابن عبد البر بأسانيده كما يقول، عن عائشة أمِّ المؤمنين أنها قالت: «ما رأيتُ أحداً كان أشبهَ كلاماً وسَمْتاً وهدياً ودلاً برسول الله من فاطمة، وكانت إذا دخَلتْ عليه قامَ إليها فأخذَ بيدِها فقبّلها وأجلَسها في مجلِسه، وكانت إذا دخَل عليها قامتْ إليه فأخذَت بيدِه فقبّلتها وأجلَسته في مجلسها».
عندما ندرس هذا النص، سواء مما ورد عن عائشة في الاستيعاب أو في سنن أبي داود فماذا نفهم؟ إنه يوحي بعمق العلاقة الروحية بين رسول الله (ص) وبين فاطمة (ع)، لأنّ رسول الله لم يفعل ذلك مع غيرها، ولم تفعل ذلك مع غيره، ولكنه فعله معها وفعلته معه، لماذا؟ لأنّ العلاقة بين فاطمة الزهراء (ع) وبين رسول الله بدأت منذ طفولتها الأُولى، ربّما لم تحدّثنا السيرة عن طفولتها مع رسول الله في حياة أُمها، ولكن السيرة النبوية الشريفة حدّثتنا عن طفولتها بعد وفاة أُمها، وكان رسول الله (ص) وحيداً في بيته، مات عمّه «أبو طالب» الّذي كان يرعاه ويحميه من عنف قريش، وماتت زوجته «خديجة» أمّ المؤمنين الّتي تعيش معه وله بكلِّ وجودها، وأصبح يعيش الوحدة تماماً. كما عاش الوحدة عندما افتقد أُمّه وهو رضيع، والنبي (ص) وهو الممتلئ بمحبة الله، كان بشراً يحتاج إلى الحنان والعاطفة والمحبة كما يحتاجها البشر، وليس ذلك نقصاً في ذاته، وليس ضعفاً في ثقته بنفسه وامتلائه بربّه، ولكن _ أيّها الناس _ إنّ النبي يجوع كما نجوع ويعطش كما نعطش، ونحن نجوع إلى الحنان عند حاجتنا إلى الحنان، ونحتاج إلى أن نشبع منه، كما نجوع إلى الغذاء ونحتاج إلى أن نشبع منه، وكان النبي (ص) يريد اللمسة الحلوة والاحتضان الرقيق، وتفرغت الزهراء (ع) بكل ما في قلبها من حنان وعاطفة، وطهر ونقاء وصفاء، واحتضنت حياته، وكلِّ متاعبه في رسالته، حتّى اكتشف النبي (ص) أن أُمه قد بُعِثَت من جديد، وانطلقت كلمته الخالدة «إنّها أُمّ أبيها».
ربّما حاول البعض أن يصوّر حديثنا عن هذه الأمومة الّتي انفتحت من خلالها فاطمة، من قلبها وروحها على أبيها، أننا نتحدّث عن ضعف في النبي، أو أنّها تسيء إلى كماله وعصمته، ولكن أيّها الناس، هل تنافي العصمة أن يجوع النبي ويربط حجر المجاعة على بطنه، أن يظمأ النبي ويشرب الماء ليستقي به، فكذلك جوع الحنان وشبع الحنان وظمأ العاطفة وارتواء العاطفة، وقد لا يعي الناس هذه المعاني الّتي أكدها الله سبحانه وتعالى عندما تحدّث عن حزن النبي، وتحدّث عن ذهاب نفسه حسرات من أجل قومه، وتحدّث عن كثير ممّا يعانيه من مشاعره الّتي تبقى مشاعر الإنسان. وهذا ما يفسّر عمق هذه العلاقة الّتي امتدّت حتّى وفاته (ص)، فلقد كان هناك عشق روحي متبادل، وربما نستطيع أنْ نؤكد أنّ هناك وحدةً تمثل هذا الاندماج الروحي بين الزهراء (ع) وبين رسول الله (ص).
ثم نتابع في الجو نفسه وفي عدة روايات، «إنّ فاطمة أقبلَتْ ما تخطئ مشيتُها مشيةَ رسول الله (ص)»، تأثّرت به حتّى في طريقة مشيه، لأنّه كان أستاذها وكان المربي لها وكان المعلم لها، وكان الّذي يعطيها في كل يوم خُلُقاً من أخلاقه وروحاً من روحه، وعقلاً من عقله، كانت معه في مكة في الليل والنهار يناجيها وتناجيه، ومن هنا كان علم فاطمة من علم رسول الله، كما كان علم زوجها من علم رسول الله، لم يتحدث التاريخ عن أُستاذ لفاطمة (ص) غير رسول الله (ص)، كما لم يحدّثنا التاريخ عن أُستاذ لعلي (ع) غير رسول الله (ص).