تأملات في تجربة الإمام علي (ع)
في حركة النص في الواقع
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
هل نحن هنا لتأكيد نصٍّ إسلاميٍ نبويٍّ في مسألة الخلافة، لنخلص من خلال ذلك إلى الحديث الحاسم في أن الإمام علي هو خليفة النبيّ (ص) حقاً؟
أم أننا في محاولةٍ لاكتشاف التجربة الحيّة من خلال استنطاق مفردات النص في حركة الواقع الإسلامي، ولا سيّما في وعي الإمام علي (ع) في تجربته الغنية الرائدة، أو للانفتاح على الدلالة الموحية في المعنى الذي يختزنه النصّ كقاعدةٍ فكريّةٍ مفتوحة على كل مواقع الحكم في المسيرة الإسلامية الطويلة.
بين الشرعية الفكرية والشرعية والواقعية
في العنوان الكبير، كان القرآن الكريم هو الأساس الأول لقاعدة اختيار الحاكم الخليفة بعد رسول الله (ص) {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس}. ووقف النبي (ص) ليبلّغ ما أنزل إليه من ربّه، ليضمن للرسالة معنى الثبات في معنى الفكر الذي يحمل كل فكر الرسالة في مواقع القمة، وفي عمق الروح التي تعيش روحية الرسالة في عمق الحب لله والإخلاص له، وفي قوّة الحركة، في صلابة الإرادة وشجاعة الموقف وانفتاح القرار على المسؤوليَّة كلِّها.
وكان علي (ع) من خلال ذلك الأولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما كان النبي (ص) كذلك، لأن هذه الكلمة ليست عنواناً تشريفياً للذات، بل هي عنوان المسؤولية في الدور من خلال خطِّ الحاكمية في حركة الحاكم في الإسلام.
ومرّت الأيام.. وعاشت المسألة في حركة الواقع في اتجاهٍ آخر، أو بُعدٍ آخر، بحيث ابتعد النص عن الذاكرة، وتنوَّعت الأقوال في مصادرة، واختلفت الأفكار في تفسيره، وتعددت الاحتمالات في مدلوله، حتى أصبحت القضية مثاراً للجدل، يشتد تارةً ويضعف أخرى، انطلاقاً من أن المشكلة في أمثال هذه القضايا، أنها عندما تبتعد عن الجانب التنفيذي في واقع الناس، فإنها تفقد حيويّتها في الوعي العام، لأن الناس تحب دائماً تبرير الواقع في ما تعتاده من حركته في تفاصيل حياتها اليومية، بحيث يشغلها ذلك عن التفكير في معناه وفي شرعيته، ما يجعل من ذلك أساساً للشرعية الواقعية التي تتحوّل بفعل مرور الزمن إلى شرعيةٍ فكريةٍ تتمرّد في إحساسها الداخلي بامتداده في حياتها، على كل فكرٍ مضادٍّ أو احتمال مخالفٍ، ولا سيّما أن الأمر الواقع يجتذب الأكثرية من الناس بالطريقة التي قد توحي بأنه يمثل قوّة الحقيقة من خلال ما تمثِّله الأكثرية من قوّة الموقع.
ومن خلال ذلك، بدأ الموقف يتجه إلى لونٍ من ألوان الشعور بالاضطهاد لدى الفئات التي لا تعترف بشرعية الأمر الواقع في دوائرها الصغيرة المتمثّلة بالمواقع التي تحتلها الأقلية في الساحة.
موانع الحوار الموضوعي
وهكذا بدأ المسلمون يتحرَّكون على أساس المذهبية الفكرية في إيحاءاتها الشعورية، من خلال الأجواء التي يقتربُ فيها الإحساسُ من الفكر، ليحوِّل المضمون إلى معنىً في الإحساس الملتهب بعوامل الإثارة، بدلاً من أن يكون معنىً في الفكر المنطلق من عناصر الحجة والبرهان. وفي ضوء ذلك، تحوّلت المساجلة إلى نوعٍ من أنواع تسجيل النقاط المتبادلة، في تجربة الجدل الفكري في مثل هذه القضايا.
ثم اتّجهت الحركة من خلال النقاط الحادة في مواقع الهدف، إلى حالةٍ من التشنج والتعقيد بالمستوى الذي يدفع إلى التنازع والتحاقد والتباغض، وبالتالي إلى القتال. وهكذا تطورت المسألة لتتحول إلى مشكلة عميقة الجذور في مواقف المسلمين في علاقاتهم ببعضهم البعض، في الوقت الذي كانت مطروحة لتكون حلاً للمشكلة.
وأصبحت الطروحات تتحرك في الوسط الثقافي أو في الوسط السياسي الإسلامي، على أساس السؤال:
كيف نغلق باب الجدل في هذه المسألة الخلافية لنتجاوزها إلى عناصر الوحدة؟
أو كيف نخفف من تأثيرها على الواقع الإسلامي لتبقى في دائرةٍ جانبيةٍ من الاهتمامات الثقافية أمام الدوائر الحيوية التي تفرض علينا المزيد من الاهتمام الحركي في التطلع إليها؟
وربّما جرّب المسلمون الالتفاف على المسألة السلبية في مثل هذه الأمور، بالهروب من مواجهة المفردات الفكرية أو الحركية فيها، وذلك من خلال أسلوب «التقية الفكرية أو العملية» التي يلجأ إليها كلُّ فريق لا يملك القوة لطروحاته في مواقعه، أو لا يجد الفرصة سانحةً للحديث عنها بالطريقة المتوازنة التي لا تثير مشكلةً أو تعقيداً للقضايا الإسلامية الكبرى، أو للأمن الشخصي المحدود، الأمر الذي أدّى إلى إرباك الكثير من المفاهيم والأحكام والمواقف الإسلامية التي اختلط فيها جانب الجدية بالتقية في هذا الموقع أو ذاك.. ولا يزال الكثير من المفكرين والفقهاء في حيرةٍ أمام بعض المفاهيم أو الأحكام الشرعية، هل هي واردةً على سبيل التقية أو لبيان الواقع؟
وهل يكفي في الحمل على التقية موافقة الكلام للذهنية العامة لدى الفريق القوي في مقابل الذهنية العامة الأخرى لدى الفريق الضعيف، أم أن هناك وجوهاً أخرى؟
ما أدخل الكثير من القضايا في أبحاثٍ معقّدةٍ تختلف فيها العناوين والاحتمالات. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن التقية المتبادلة هنا وهناك قد أوجدت حالة من الشك المتبادل في جدّية ما يتحدث فيه كل فريقٍ أمام الآخر في ما يعتقده أو في ما يلتزمه، لأن احتمال التقية وارد في هذا الحديث أو ذاك.
إنَّنا لا نريدُ طرح المشكلة لإثارة المزيد من محاولات اتّهام الواقع الذي نعيشه وإدخاله في أجواء المأساة الإسلامية، لنصل - بالنتيجة - إلى ما تعارفنا الحديث عنه، من مشاكل انحطاط المسلمين وضعفهم وضرورة التخلّص من ذلك بالوعي والوحدة وما إلى ذلك من الكلمات الاستهلاكية، لأن ذلك لن يؤدي إلى أية نتيجةٍ حاسمةٍ على مستوى معالجة الواقع الإسلامي في العمق والامتداد.
إن القضية التي نريد أن نطرحها في العنوان البارز لهذا الحدث هي: إنَّ التاريخ الدامي المعقََّد الذي عاشته الأمة الإسلامية في حركة المذهبية في نطاق الخلافة والإمامة وفي دائرة الفقه، خلقت لدينا ذهنيةً معقدةً في مواجهة المسائل الخلافية، بحيث إنّه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل - عملياً - أن يفكّر عالم على مذهب أهل السنة أن يختار رأياً كلامياً أو فقهياً من آراء الشيعة، أو أن يفكر عالم شيعيّ في اختيار رأي في العقيدة أو في الشريعة يلتقي برأي عالم سني، لأن ذلك يمثل انحرافاً عن خط التسنن أو خط التشيع، بحيث تحوّل هذان العنوانان إلى عنوانين يحبس كل فريق من المسلمين نفسه في دائرة أحدهما، فلا يملك الخروج منه، بحيث لو اطَّلع على نصٍّ يؤكد رأي الفريق الآخر، فإنه يضطر - لا شعورياً - إلى الطعن في سنده أو في دلالته مهما كانت عناصر الطعن ضعيفةً.
أمّا إذا استطاع عالم من هذا الفريق أو ذاك أن يملك الشجاعة التي تجعله يختار رأياً غريباً عن أجواء فريقه، فإنه سوف يتهم بالانحراف عن المذهب، والتأثر الفكري بالمذهب الآخر ما يجعله بعيداً عن مواقع الثقة الفكرية أو الفقهية في النطاق المذهبي، ويؤدي به إلى أن تكون أفكاره مرفوضةً سلفاً في الدائرة العلمية.
في حركة النص في الواقع
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
هل نحن هنا لتأكيد نصٍّ إسلاميٍ نبويٍّ في مسألة الخلافة، لنخلص من خلال ذلك إلى الحديث الحاسم في أن الإمام علي هو خليفة النبيّ (ص) حقاً؟
أم أننا في محاولةٍ لاكتشاف التجربة الحيّة من خلال استنطاق مفردات النص في حركة الواقع الإسلامي، ولا سيّما في وعي الإمام علي (ع) في تجربته الغنية الرائدة، أو للانفتاح على الدلالة الموحية في المعنى الذي يختزنه النصّ كقاعدةٍ فكريّةٍ مفتوحة على كل مواقع الحكم في المسيرة الإسلامية الطويلة.
بين الشرعية الفكرية والشرعية والواقعية
في العنوان الكبير، كان القرآن الكريم هو الأساس الأول لقاعدة اختيار الحاكم الخليفة بعد رسول الله (ص) {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس}. ووقف النبي (ص) ليبلّغ ما أنزل إليه من ربّه، ليضمن للرسالة معنى الثبات في معنى الفكر الذي يحمل كل فكر الرسالة في مواقع القمة، وفي عمق الروح التي تعيش روحية الرسالة في عمق الحب لله والإخلاص له، وفي قوّة الحركة، في صلابة الإرادة وشجاعة الموقف وانفتاح القرار على المسؤوليَّة كلِّها.
وكان علي (ع) من خلال ذلك الأولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما كان النبي (ص) كذلك، لأن هذه الكلمة ليست عنواناً تشريفياً للذات، بل هي عنوان المسؤولية في الدور من خلال خطِّ الحاكمية في حركة الحاكم في الإسلام.
ومرّت الأيام.. وعاشت المسألة في حركة الواقع في اتجاهٍ آخر، أو بُعدٍ آخر، بحيث ابتعد النص عن الذاكرة، وتنوَّعت الأقوال في مصادرة، واختلفت الأفكار في تفسيره، وتعددت الاحتمالات في مدلوله، حتى أصبحت القضية مثاراً للجدل، يشتد تارةً ويضعف أخرى، انطلاقاً من أن المشكلة في أمثال هذه القضايا، أنها عندما تبتعد عن الجانب التنفيذي في واقع الناس، فإنها تفقد حيويّتها في الوعي العام، لأن الناس تحب دائماً تبرير الواقع في ما تعتاده من حركته في تفاصيل حياتها اليومية، بحيث يشغلها ذلك عن التفكير في معناه وفي شرعيته، ما يجعل من ذلك أساساً للشرعية الواقعية التي تتحوّل بفعل مرور الزمن إلى شرعيةٍ فكريةٍ تتمرّد في إحساسها الداخلي بامتداده في حياتها، على كل فكرٍ مضادٍّ أو احتمال مخالفٍ، ولا سيّما أن الأمر الواقع يجتذب الأكثرية من الناس بالطريقة التي قد توحي بأنه يمثل قوّة الحقيقة من خلال ما تمثِّله الأكثرية من قوّة الموقع.
ومن خلال ذلك، بدأ الموقف يتجه إلى لونٍ من ألوان الشعور بالاضطهاد لدى الفئات التي لا تعترف بشرعية الأمر الواقع في دوائرها الصغيرة المتمثّلة بالمواقع التي تحتلها الأقلية في الساحة.
موانع الحوار الموضوعي
وهكذا بدأ المسلمون يتحرَّكون على أساس المذهبية الفكرية في إيحاءاتها الشعورية، من خلال الأجواء التي يقتربُ فيها الإحساسُ من الفكر، ليحوِّل المضمون إلى معنىً في الإحساس الملتهب بعوامل الإثارة، بدلاً من أن يكون معنىً في الفكر المنطلق من عناصر الحجة والبرهان. وفي ضوء ذلك، تحوّلت المساجلة إلى نوعٍ من أنواع تسجيل النقاط المتبادلة، في تجربة الجدل الفكري في مثل هذه القضايا.
ثم اتّجهت الحركة من خلال النقاط الحادة في مواقع الهدف، إلى حالةٍ من التشنج والتعقيد بالمستوى الذي يدفع إلى التنازع والتحاقد والتباغض، وبالتالي إلى القتال. وهكذا تطورت المسألة لتتحول إلى مشكلة عميقة الجذور في مواقف المسلمين في علاقاتهم ببعضهم البعض، في الوقت الذي كانت مطروحة لتكون حلاً للمشكلة.
وأصبحت الطروحات تتحرك في الوسط الثقافي أو في الوسط السياسي الإسلامي، على أساس السؤال:
كيف نغلق باب الجدل في هذه المسألة الخلافية لنتجاوزها إلى عناصر الوحدة؟
أو كيف نخفف من تأثيرها على الواقع الإسلامي لتبقى في دائرةٍ جانبيةٍ من الاهتمامات الثقافية أمام الدوائر الحيوية التي تفرض علينا المزيد من الاهتمام الحركي في التطلع إليها؟
وربّما جرّب المسلمون الالتفاف على المسألة السلبية في مثل هذه الأمور، بالهروب من مواجهة المفردات الفكرية أو الحركية فيها، وذلك من خلال أسلوب «التقية الفكرية أو العملية» التي يلجأ إليها كلُّ فريق لا يملك القوة لطروحاته في مواقعه، أو لا يجد الفرصة سانحةً للحديث عنها بالطريقة المتوازنة التي لا تثير مشكلةً أو تعقيداً للقضايا الإسلامية الكبرى، أو للأمن الشخصي المحدود، الأمر الذي أدّى إلى إرباك الكثير من المفاهيم والأحكام والمواقف الإسلامية التي اختلط فيها جانب الجدية بالتقية في هذا الموقع أو ذاك.. ولا يزال الكثير من المفكرين والفقهاء في حيرةٍ أمام بعض المفاهيم أو الأحكام الشرعية، هل هي واردةً على سبيل التقية أو لبيان الواقع؟
وهل يكفي في الحمل على التقية موافقة الكلام للذهنية العامة لدى الفريق القوي في مقابل الذهنية العامة الأخرى لدى الفريق الضعيف، أم أن هناك وجوهاً أخرى؟
ما أدخل الكثير من القضايا في أبحاثٍ معقّدةٍ تختلف فيها العناوين والاحتمالات. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن التقية المتبادلة هنا وهناك قد أوجدت حالة من الشك المتبادل في جدّية ما يتحدث فيه كل فريقٍ أمام الآخر في ما يعتقده أو في ما يلتزمه، لأن احتمال التقية وارد في هذا الحديث أو ذاك.
إنَّنا لا نريدُ طرح المشكلة لإثارة المزيد من محاولات اتّهام الواقع الذي نعيشه وإدخاله في أجواء المأساة الإسلامية، لنصل - بالنتيجة - إلى ما تعارفنا الحديث عنه، من مشاكل انحطاط المسلمين وضعفهم وضرورة التخلّص من ذلك بالوعي والوحدة وما إلى ذلك من الكلمات الاستهلاكية، لأن ذلك لن يؤدي إلى أية نتيجةٍ حاسمةٍ على مستوى معالجة الواقع الإسلامي في العمق والامتداد.
إن القضية التي نريد أن نطرحها في العنوان البارز لهذا الحدث هي: إنَّ التاريخ الدامي المعقََّد الذي عاشته الأمة الإسلامية في حركة المذهبية في نطاق الخلافة والإمامة وفي دائرة الفقه، خلقت لدينا ذهنيةً معقدةً في مواجهة المسائل الخلافية، بحيث إنّه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل - عملياً - أن يفكّر عالم على مذهب أهل السنة أن يختار رأياً كلامياً أو فقهياً من آراء الشيعة، أو أن يفكر عالم شيعيّ في اختيار رأي في العقيدة أو في الشريعة يلتقي برأي عالم سني، لأن ذلك يمثل انحرافاً عن خط التسنن أو خط التشيع، بحيث تحوّل هذان العنوانان إلى عنوانين يحبس كل فريق من المسلمين نفسه في دائرة أحدهما، فلا يملك الخروج منه، بحيث لو اطَّلع على نصٍّ يؤكد رأي الفريق الآخر، فإنه يضطر - لا شعورياً - إلى الطعن في سنده أو في دلالته مهما كانت عناصر الطعن ضعيفةً.
أمّا إذا استطاع عالم من هذا الفريق أو ذاك أن يملك الشجاعة التي تجعله يختار رأياً غريباً عن أجواء فريقه، فإنه سوف يتهم بالانحراف عن المذهب، والتأثر الفكري بالمذهب الآخر ما يجعله بعيداً عن مواقع الثقة الفكرية أو الفقهية في النطاق المذهبي، ويؤدي به إلى أن تكون أفكاره مرفوضةً سلفاً في الدائرة العلمية.